«السياسة الخارجية لا تهم».. هل صحت مقولة «كارفيل» برئاسيات أمريكا؟
قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1992 صاغ السياسي الديمقراطي جيمس كارفيل من حملة بيل كلينتون مصطلح “السياسة الخارجية لا تهم”.
ووفقا لهذا المنطق فإن الانتخابات الرئاسية تحسمها قضايا أساسية تتعلق بالسياسة الداخلية، وليس السياسة الخارجية وذلك وفقا لما ذكرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.
ويبدو أن استطلاعات الرأي الأخيرة تتفق مع رؤية كارفيل حيث ذكر مجلس شيكاغو للشؤون العالمية أن ما يقرب من 60% من الناخبين قالوا إن الاقتصاد والتضخم سيشكلان إلى حد كبير اختيارهم في نوفمبر/تشرين الثاني، في حين قال أقل من 20% الشيء نفسه عن حرب غزة وحرب أوكرانيا.
ومع ذلك، يكشف التاريخ عن ارتباط السياسة الخارجية بالحملات الرئاسية حتى لو كان الناخبون يعلقون أهمية محدودة عليها إلا أنهم في النهاية يريدون التأكد من لياقة المرشحين للعمل كقائد أعلى للبلاد وبشكل خاص، يعتقد الأمريكيون أهمية وجود زعيم قوي يقف بثبات في مواجهة الخصوم.
ويلعب إظهار القدرة على قيادة العالم الحر دورًا مهمًا في جذب الناخبين وهو ما يجعل السياسة الخارجية أكثر أهمية في صناديق الاقتراع مما تقوله الحكمة التقليدية.
في المقابل، تلعب اعتبارات الانتخابات دورا كبيرا في طرق تعامل شاغلي المنصب مع قضايا السياسة الخارجية مثلما حدث الشهر الماضي عندما تحدت إسرائيل دعوات البيت الأبيض لوقف إطلاق النار في لبنان وصعدت من عملياتها ضد حزب الله كانت إدارة الرئيس جو بايدن تدرك أن أي رد فعل أمريكي كبير سيعرض الديمقراطيين ومرشحتهم الرئاسية كامالا هاريس لاتهامات بعدم دعم إسرائيل.
ما يواجهه الحزب الديمقراطي حاليا هو ما اكتشفه الرؤساء السابقون هاري ترومان وليندون جونسون وجيمي كارتر بالطريقة الصعبة وهو أن السياسة الخارجية هي منطقة محفوفة بالمخاطر وأن الصراعات غير المحلولة والأزمات غير المتوقعة قد تلحق ضررًا كبيرًا بالحملات الانتخابية وهو ما يشكل عنصرا أساسياً لفهم انتخابات 2024.
ولا تعد مواقف المرشحين بشأن القضايا الدولية الاعتبار الرئيسي للناخبين عند اختيار المرشح الذي سيكون قائدا أعلى أكثر فعالية ففي انتخابات 2020، عندما طُلب من الناخبين شرح سبب اعتقادهم بأن جو بايدن أو دونالد ترامب سيتمكنان من التعامل بشكل أفضل مع السياسة الخارجية، استشهد ضعف الناخبين بالصفات الشخصية مثل الصلابة والحسم والحدة العقلية، أكثر من الاستشهاد بالمواقف السياسية.
وفي انتخابات 1952، وفي ذروة الحرب الكورية وعد المرشح الجمهوري دوايت أيزنهاور بأنه “سيذهب إلى كوريا” إذا فاز ولم يكن بحاجة لشرح ما سيفعله هناك بفضل المصداقية التي حققها سجله العسكري بعدما قاد القوات الأمريكية إلى النصر في الحرب العالمية الثانية ثم خدم كأعلى جنرال في حلف شمال الأطلسي.
وفي 1968، استخدم ريتشارد نيكسون نفس الأسلوب أثناء حملته التي جرت في خضم حرب فيتنام فألمح إلى أنه لديه خطة ورغم أن الناخبين لم يعرفوا ما هي الخطة لكنهم كانوا يعتقدون أنه زعيم قوي قادر على إدارة الحرب أفضل من خصمه الديمقراطي هيوبرت همفري.
ويدرك المرشحون الرئاسيون قوة صنع صورة لهم ويستخدمون أجندة السياسة الخارجية لإظهار قوة القيادة، ففي 1960، اقترح جون كينيدي تعزيزاً عسكرياً أمريكياً كبيراً لسد “فجوة الصواريخ” مع الاتحاد السوفياتي ورغم اعتقاد ربع الأمريكيين فقط بالحاجة إلى زيادة ميزانية الدفاع فإن وعد كينيدي الشهير “بدفع أي ثمن، وتحمل أي عبء” لتعزيز الزعامة العالمية للولايات المتحدة” لا يزال يتردد صداه بين الأمريكيين.
وفي أوقات التهديدات المتزايدة، يركز الناخبون على اختيار زعيم قوي وهذا الاتجاه مهم لفهم انتخابات 2024 التي تجري وسط حرب أوكرانيا والشرق الأوسط وفي ظل تزايد تحركات الصين في بحر الصين الجنوبي.
وحتى في أوقات عدم التهديد لا يزال يتعين على المرشحين إظهار أنفسهم كزعماء أقوياء مثلما حدث في 1992 عندما كان من المفترض أنها تدور حول “الاقتصاد يا غبي” بحسب تعبير كارفيل فقد كان من المهم لحملة كلينتون الحديث عن قضية سياسة خارجية تقوض سمعة بوش الأب لذا وعد المرشح الديمقراطي بتصعيد التدخل الأمريكي في البوسنة “لإظهار الزعامة الحقيقية”.
ويمكن للانتخابات أن تشجع الرؤساء على تغيير طرق إدارة السياسة الخارجية وأحيانًا يجعل الضغط الرؤساء أكثر استعدادًا لاستخدام القوة مثلما فعل نيكسون في 1972 عندما أمر بعملية قصف كبرى لمواجهة هجوم فيتنام الشمالية من أجل تعزيز صورته في عام الانتخابات.
في المقابل، قد يدفع القلق في عام الانتخابات شاغل المنصب لأن يكون أكثر حساسية للمخاطر السياسية لإبقاء القوات في خطر وهو ما دفع باراك أوباما لسحب القوات الأمريكية من العراق في أواخر 2011 لمواجهة الضغوط للوفاء بتعهده الانتخابي.
وحتى عندما لا يترشح الرؤساء لإعادة انتخابهم، فإن الانتخابات الوشيكة قد تقوض نفوذ الرؤساء مثلما يحدث مع بايدن حاليا حيث يعجز عن التوسط في اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان وهو ما يشبه التحديات التي واجهها نيكسون في محاولته لإنهاء حرب فيتنام في 1968.
وقد تجعل الانتخابات القادمة حل الأزمات الدولية أكثر إلحاحا ففي 1980 أدرك كارتر أن العودة الآمنة للرهائن الأمريكيين في إيران حاسمة لمحاولة إعادة انتخابه لكن فشل مهمة الإنقاذ ساهم في خسارته.
وفي 2024، تؤكد سياسات ترامب التجارية “أمريكا أولاً” على سمعته كصانع صفقات عنيد يقاوم دولا مثل الصين في المقابل تسعى هاريس لإظهار قدرتها على الدفاع عن العمال الأمريكيين بنفس القوة التي يتسم بها خصمها الجمهوري.
ولأنه استوعب أهمية الظهور بمظهر متشدد في السياسة الخارجية يتهرب ترامب من الإجابة مع أسئلة حول تعامله مع حرب أوكرانيا كرئيس لكنه يصر على أن الحرب لم تكن لتندلع لو كان في البيت الأبيض وتركز حملته على فكرة أن ترامب “سيحقق السلام من خلال القوة”.
ويعد التحدي الرئيسي أمام هاريس هو إثبات قدرتها على أن تكون القائد الأعلى الذي يريده الأمريكيين وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة الشؤون العالمية في الولايات المتأرجحة أن ترامب يتقدم بثماني نقاط باعتباره زعيما أقوى في الشؤون الدولية.
وتعالج هاريس هذا العجز بصرامة فأكدت أن الأمريكيين يجب أن يحتفظوا “بأقوى قوة قتالية في العالم” وأصرت على أن ترامب “ضعيف ومخطئ في الأمن القومي” لكنها تحتاج إلى تقديم مزيد من التفاصيل حول كيفية ضخ حياة جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية.
وتختلف هاريس مع بايدن في انتقادها الأكثر صراحة لإسرائيل وهو نهج قد يساعد في كسب الأصوات في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان التي تضم أعدادا كبيرة من التقدميين والأمريكيين العرب لكن على المستوى الوطني قد يؤدي التوجه نحو اليسار في قضية غزة لاتهامها بالفشل في دعم إسرائيل.
لذا يتعين على هاريس البحث عن مجالات إضافية لتعزيز التباين بينها وبين ترامب في السياسة الخارجية مثل شرح كيفية تعزيز دعم أوكرانيا واحتواء الصين.
ومع دخول الحملة مرحلتها الأخيرة، من المرجح أن يزداد الارتباط السياسي الذي تواجهه هاريس في الشرق الأوسط سوءا وسيترك كفاح هاريس لسد الفجوة في وجهات النظر داخل الحزب الحرية لترامب لإلقاء اللوم عليها لتصاعد التوترات.
aXA6IDJhMDI6NDc4MDphOjE0NTE6MDoxN2IzOjljNmY6MiA= جزيرة ام اند امز