اخبار لايف

الفيلم الوثائقي «حار قاتل صيفا».. التغير المناخي يسحق رمزية الفن


سواء كنا نسبح داخل عروق القاهرة النابضة، حيث تتصارع أصوات ماكينات المركبات مع نبض حياة لا ينقطع، أو في سهول الدلتا الفسيحة، حيث تتلاقى نسائم الطبيعة مع عرق الفلاحين، سنسمع صدى سؤالٍ وجودي:

هل أضحى التغير المناخي قدرًا محتومًا في أرض الكنانة، وهل لهذا القدر أن يعيد صياغة ملامح الحياة في مصر التي تشكلت عبر قرون من التفاعل الإنساني مع هذه الأرض؟

هذه التساؤلات ليست مجرد خواطر عابرة، بل هي نواة انطلق منها الفيلم الوثائقي «حار قاتل صيفا»، من إنتاج بوابة «العين الإخبارية»، ليرسم لنا لوحة تحليلية مدعومة بالحقائق العلمية، والإحصائيات الدقيقة، وشهادات من الأكاديميين، لتضعنا وجها لوجه أمام التحديات المناخية، فيما تزحف تداعياتها متسارعة على نسيج الحياة برمته في مصر.

«الدنيا ربيع».. صوت سعاد حسني يخذل واقعًا يستعر

بدأ الفيلم رحلته في قلب العاصمة المصرية، تلك المدينة التي طالما تغنى بها الشعراء، ورسم لها الفنانون لوحات تعكس مناخها المعتدل، إلا أنها اليوم تبدو كساحة صراع روماني قديم، حيث تتصاعد درجات الحرارة لتجبر الإنسان على دخول حرب بقاء يومي سلاحه الوحيد فيها هو الصمود، وفي مدرجات الحلبة، تعلو أصوات الزحام الصارخة المختلطة بأنفاس البشر اللاهثة.

وبينما تتردد في أذهاننا كلمات سعاد حسني «الدنيا ربيع والجو بديع»، أضحى الواقع يصرخ بدوره بحرارة خانقة مكذبا ما جاء في الأيقونة الموسيقية، مع رطوبة زاحفة لم يعهدها المصريون من قبل، لتتلاشى معهما صدى الأغنية الشهيرة في بكل ما تحمله كلماتها في الذاكرة.

سائق تاكسي خطّت التجاعيد وجهه بقلم غليظ، يحكي عن زمن كانت فيه السيارات المكيفة نادرة، وعن واقع «ساخن جدًا» يعاصره لم يعهده من قبل. تقسيمات وجهه تلفت انتباهنا إلى أن الزمن لم يعد كما كان، وأن مناخ مصر أيضا لم يعد كما نعرفه.

بدأ الفيلم بمشهد جرافيك لسيارات في الشارع، ثم تحول إلى مشهد حقيقي، ثم إلى داخل السيارة، لنغوص مع تفاصيله داخل الواقعية.

كما جاءت مشاهد الازدحام المروري، لتعكس بشكل مزدوج سخونة الجو على الأرض وفي السماء، ومدى تأثير التغير المناخي على حياة المصريين اليومية.

جسدت مشاهد السائق معاناة المسنين من ارتفاع درجات الحرارة، مما أضاف بعدًا شخصيًا إنسانيا للقضية، وجعلها أكثر وتأثيرًا.

ما بين الحقائق العلمية وحكايات البشر

لم يقف الفيلم عند الرصد العابر للظواهر، بل تعمق إلى حقائق علمية دقيقة مدعومة بشهادات الخبراء. ففي مقابلات مع متخصصين في علم المناخ، يتضح أن متوسط درجة الحرارة السنوية في مصر ارتفع بمقدار لا يستهان به، وأن فصول السنة باتت تتداخل، وأن الرطوبة أصبحت جزءًا من تفاصيل يوميات المصريين، في تحذير واضح للجمبع بأن علينا أن ننتبه لأن الطبيعة تتغير أمام أعيننا فيما نقف مكتوفي الأيدي نبكي على رحيق الستينيات والسبعينيات حين كان متوسط درجة الحرارة طوال العام لا يتجاوز 29 درجة.

لعبت مشاهد الجرافيك دورًا محوريًا في الفيلم، لترسيخ المفاهيم المعقدة، وتفسير الظواهر العلمية بطريقة بسيطة ومباشرة، وتميزت بجودتها العالية، وألوانها الجذابة، وتصميمها المبتكر، مما ساعد على جذب الانتباه وتثبيت المعلومات. كما أن تنوعها ما بين الرسوم البيانية، والرسوم التوضيحية، والمشاهد المتحركة، أضفى تكاملاً على الفيلم.

الطقس يتحول إلى جلاد

تجاوز الفيلم حدود المناخ، ليقتحم خصوصية أجسادنا لاستبيان تأثير التغير المناخي على صحتنا. تشرح لنا مشاهد الجرافيك المتحركة شرايين القلب، وأوردة الدم، ونفهم أن ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى سلسلة من التغيرات الفسيولوجية، تنتهي بإنهاك الجسد، وتشنجات العضلات، وتتسبب أحيانًا في الإغماء والوفاة.

الزراعة.. هل تنقذنا أم تجف الأرض قبلنا؟

في حقول الدلتا، حيث تتجلى قصة مصر مع الأرض، يطرح الفيلم سؤالًا مؤرقًا: هل ستتمكن الزراعة من الصمود في وجه التغير المناخي؟ فمن القمح الذابل، إلى أشجار المانجو العارية، يسقط الفيلم ورقة التوت عن لوحة صارخة تكشف عن مستقبل مهدد فيه الأمن الغذائي حال لم نتخذ جميعا التدابير الاحترازية، لننتقل من حقيقة إلى كابوس، من زراعة هي صمام أمان مصر عبر العصور، إلى احتمالية الغرق في مستنقع التغير المناخي.

مشاهد الأراضي الزراعية ذات الكادرات الواسعة كشفت مدى ارتباط الإنسان المصري بالطبيعة وحبه له وإيمانه بها منذ آلاف السنين، ومدى تأثير التغير المناخي على الزراعة وحياة المزارعين، ليفتح الباب أمام بُعد اقتصادي اجتماعي للقضية.

مستقبل مرصع بالشكوك.. هل مدننا قادرة على الصمود؟

لم يتوقف الفيلم عن وضعنا داخل بوتقة الأزمة، ولم يكف عن إشغال ذهننا بالقضية العالمية الخطيرة، ففي مشهد مؤرق، يطرح الفيلم سؤالًا آخر: هل بنيتنا التحتية قادرة على مواجهة التغيرات المناخية، وهل مدننا، التي صممناها بأيدينا، مهيأة للتغيرات الجذرية في المناخ؟ ثم يعود بنا إلى الماضي، ليذكرنا بأن منازل الأجداد، بممراتها الهوائية، وباحاتها المفتوحة، كانت أكثر تكيفا مع البيئة من مبانينا الحديثة المودرن ذات الطرز المعمارية الخاطفة، وكأن الزمن يخرج لنا لسانه ليقول إن العودة إلى بساطة الماضي قد تكون سبيلكم إلى المستقبل.

قسوة الأرقام جرس إنذار

في لغة الأرقام، يبين لنا الفيلم أن متوسط درجة الحرارة في مصر قد ازداد فعلًا، وأننا بتنا نعيش سنوات أكثر حرارة، وأيامًا أشد قسوة، وأن الوضع يزداد سوءًا، وأن هذه التغيرات ستؤثر على كل منا، وأن الأمر لم يعد مجرد «قضية بيئية» بل هو معركة وجود وتهديد مباشر لحياتنا ومستقبل الأرض نفسها من بعدنا.

حين يصبح التغير المناخي واقعًا يوميًا

ينتقل الفيلم إلى نقطة أراها الأكثر جوهرية، حيث تمتد «يد المناخ إلى حافظ النقود»، ليرصد تأثير التغير المناخي على اقتصادنا وحياتنا اليومية، فمن ارتفاع أسعار السلع، إلى تدهور الإنتاج الزراعي، أصبح التغير المناخي ليس مجرد مشكلة عالمية، بل هو جزء من الواقع اليومي، الذي ينهش في قوتنا ليحطم أحلامنا بإرادتنا.

«ومن الحر ما قتل».. إلى أي مدى ستتفاقم الأمور؟

في ختام هذه الرحلة الموجعة، يطرح الفيلم سؤاله الأخير: هل يمكن أن تقتلنا حرارة صيفنا؟ هل يستطيع هذا العامل المرهق الذي يمسح العرق عن وجهه، ويتصبب عرقًا تحت الشمس الحارقة، أن ينجز مهمته التي أولكها له إنسان آخر يعاني بدوره من التغير المناخي لكن بطريقة مختلفة. أعتقد أنني وأنت لسنا بمنأى عن آثار التغير المناخي، وأن المعاناة قادمة لتطال الجميع.

«نهايات مفتوحة».. بداية العمل الحقيقي

الفيلم لا يتركنا في اليأس، بل يدعونا إلى التفاؤل والعمل، ويؤكد على «عدم وجود نهاية»، ويذكرنا بأن كل لحظة هي فرصة جيدة للبدء من جديد. فمن خلال شهادة من خبراء التغير المناخي، يوضح الفيلم بأن الحل يبدأ بوقف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وأن هذا الحل ليس بعيد المنال، وأنه بإمكاننا أن نحمي أنفسنا ومستقبل أبنائنا.

في نهاية المطاف، يختتم الفيلم مساره بسؤال مفتوح عن «مدننا التي تسكننا»، وهل ستصمد هذه المدن في وجه التغير المناخي أم لا، وهي دعوة إلى إعادة التفكير في كل شيء، في مدننا، وحياتنا، وعلاقتنا بالطبيعة، لعلنا نجد طريقًا نحو مستقبل أفضل. فالتغير المناخي، كما يوضح الفيلم، ليس قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍ يواجهنا، وقرار مصيري يطالبنا باليقظة والعمل.

عبرت الموسيقى الهادئة في الفيلم عن عن حالة القلق والتفكير التي تثيرها القضية، وعكست الموسيقى الدرامية خطورة الأزمة وأثرها المدمر، وفي بعض المشاهد اختفت الموسيقى تماما وحل مكانها الصمت لنضع كل تركيزنا على ما نراه أمامنا من حقائق صادمة نتجه نحوها بسرعة صاروخ.

عبرت الكادرات واللقطات المفتوحة عن مدى اتساع الفجوة بين تأثير التغير المناخي على نطاق واسع، وبين بعدنا عن إيجاد حلول حقيقية بعيدا عن اجتماعات المكيفات الباردة، فيما ركزت الكادرات الضيقة على معاناة الأفراد لترسم لنا ملامح الأزمة في تعابير الوجوه، لخلق تعاطف وتفاعل مع أزمة كلنا شركاء فيها، فيما ساعدت اللقطات الداخلية في جعلنا جزءا من الحدث نفسه.

«حار قاتل صيفا» ليس مجرد فيلم وثائقي قصير، بل هو أنشودة حزينة تتخلل موسيقاها نقطة ضوء في نهاية العزف المزعج، فيلم حمل في طياته صرخة استغاثة تتردد في أرجاء مصر والعالم، وتنبيه إلى ضرورة التحرك لمواجهة التغير المناخي.

الفيلم نجح في الجمع بين الأسلوب الوثائقي والدرامي، وبين الجودة البصرية العالية والتحليل العلمي الدقيق، كما ربطنا بالقضية من خلال قصص واقعية ليحفزنا جميعا على التفكير في مستقبل كوكب الأرض، في دعوة مفتوحة لنستمع إلى صوت الحياة، وصوت سعاد حسني، لكن بشكل جديد.

aXA6IDIxMy4xNjUuMjQ3LjkzIA==

جزيرة ام اند امز

US

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى