اخبار لايف

«رقوج» غيّر قواعد اللعبة.. والفانتازيا ليست وهما


أكد المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق أنه يفضل في أعماله الدرامية والسينمائية والمسرحية الاشتغال على عالمي الواقعية السحرية والفانتازيا.



بهدوء المخرج الواثق وخيال الكاتب المفتون بالمستحيل، يتحدث عبد الحميد بوشناق عن مسرحيته الجديدة كما لو كان يحكي عن ولادة أخرى للحلم. “رقوج”، العرض الذي افتتح الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي ليلة الجمعة 9 تموز/يوليو، لم يكن مجرد عرض مسرحي، بل عودة إلى جذور الفن الحي، حيث تختلط الموسيقى باللحم الحي، وتتماهى الأجساد مع النغم، وتتحرك الشخصيات بين الواقع وما وراءه.

في لقاء مع “العين الإخبارية”، أكد بوشناق أن الواقعية السحرية لم تأت من فراغ، بل هي نمط أدبي عالمي ترسّخ في كثير من الأعمال الروائية والقصصية الكبرى، يمتزج فيه الواقعي باللامرئي، ويتسلل فيه السحر إلى الحياة اليومية من دون أن يصطدم بمنطق الأشياء. واعتبر أن حضور هذا النمط في “رقوج” كان طبيعيًا، فقد أراد للشخصيات أن تتحرّر من قوانين الجاذبية، أن تسبح في الفضاء، وتُحلّق، وتُحرّك الجمادات بالفكر، وتتحدث إلى من رحلوا، تمامًا كما فعلت شخصيتا “ميلاد” و”مبروك” في العمل.

رحلة “رقوج” من الشاشة إلى الخشبة لم تكن يسيرة. بوشناق وصفها بأنها “تحدّ كبير”، حيث تَطلب الأمر تحويل عمل تلفزيوني ناجح إلى عرض حيّ مباشر يقوم على التمثيل المتزامن مع موسيقى تُعزف في لحظتها. المسرح، بالنسبة له، لم يكن خيارًا تقنيًا بل ضرورة جمالية، لأنه يشكّل الحاضن الطبيعي لهذا النوع من المشاريع التي تعيد الجمهور إلى أصل العلاقة مع الفن: الحضور، والتفاعل، والانغماس.

أوضح المخرج التونسي أن العمل اعتمد مزجًا معبّرًا بين المسرح والموسيقى والرقص، وصاغ توليفة تعبيرية حرص من خلالها على أن تكون الشخصيات قريبة من المتلقي لا من خلال الكلمات فقط، بل من خلال الإيقاع الجسدي واللحظة الحيّة. وأضاف أن المسرح ظل حلمًا شخصيًا بالنسبة له، وكان يتمنى دائمًا أن يرى هذا المشروع ينبض على الخشبة لا خلف الشاشات، لأن التجربة التفاعلية تمنح العمل حياة جديدة، وتشرك المتفرج في صناعة الحكاية.

وأشار إلى أن “رقوج” قد يكون من أكثر أعماله تكاملاً، لا من حيث الحجم أو عدد المشاركين، بل من حيث الانسجام الداخلي، والانطلاق من فكرة أصيلة إلى صيغة حية تعبّر عنها كل عناصر العرض. وأكد أن المشروع وُلد من محبة حقيقية للمسرح، ومن رغبة في تحفيز الجمهور على العودة إلى الفضاءات الثقافية الحيّة، حيث لا مجال للفصل بين الفن والإنسان.

واستغرق العمل أكثر من شهر ونصف من البروفات المكثفة، في تجربة وصفها بوشناق بأنها “تحدٍّ مضاعف”، حيث كان عليه اختزال مسلسل درامي طويل في عرض مسرحي حيّ ومكثّف يُقدَّم أمام جمهور متعطّش للفن، وهو جمهور لا يُمكن أن يُخدع بسهولة، وسقف انتظاراته مرتفع.

عن استخدام الشاشات داخل العرض، قال إن الأمر لم يكن مجرّد تقنية، بل اختار أن تكون الشاشات جزءًا فلسفيًا من التجربة، تربط بين عالم التلفزيون والمسرح، وتكسر الحواجز الذهنية لدى المتلقي، وتدفعه إلى مساءلة موقعه من الفنّ: هل هو متفرج؟ مشارك؟ شاهد؟ أم جزء من الحكاية نفسها؟

وفي عرضه، جمع بوشناق بين الرؤية الإخراجية والبعد الموسيقي، حيث شارك شقيقه حمزة بوشناق بوضع الموسيقى الحية، التي أدّتها أوركسترا من العازفين على خشبة المسرح، في تناغم تام مع اللوحات الراقصة التي صممها حافظ ضو، بمشاركة أكثر من 20 فنانًا من أبطال المسلسل الأصليين. هذا التنسيق أضفى على العمل طاقة ديناميكية تفاعلت مع الجمهور، الذي غصّت به قاعة المركز الثقافي الدولي بالحمامات.

المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق

المخرج، المعروف بتوجهه البصري المختلف، تابع حديثه عن حرصه المستمر على التجديد شكلاً ومضمونًا، لبناء حوار فني جديد بينه وبين الجمهور. واعتبر أن “رقوج” جاء برغبة خاصة، نابعة من تجربة شخصية، لا من فرض إنتاجي، وأنه صُمّم ليعمّق العلاقة بين الشخصيات والجمهور، لا ليعيد استنساخ المسلسل.

ينتمي عبد الحميد بوشناق إلى جيل جديد من المخرجين التونسيين الذين يغامرون خارج القوالب التقليدية. وهو خريج المدرسة العليا للدراسات السينمائية بكندا، وابن الفنان لطفي بوشناق، وقد قدّم أعمالًا نالت اهتمامًا واسعًا في المهرجانات والصالات، من بينها فيلم الرعب “دشرة”، والفيلم الفنتازي “فرططو ذهب”، إلى جانب “الإبرة”، “كعبة حلوى”، “خوصة”، والفيلم الوثائقي “قديما كركوان”، كما أخرج عددًا من المسلسلات مثل “نوبة”، و”رقوج”، ومسرحية “عشاق الدنيا”.

ما حدث على خشبة مهرجان الحمامات لم يكن مجرّد افتتاح، بل لحظة مسرحية تماهت فيها الصورة مع الصوت، والخيال مع الجسد، والممثل مع المتفرج. في “رقوج”، لا تمشي الشخصيات فقط، بل تطير، وتتكلم من وراء الحياة. والفضل، هذه المرة، للمسرح الذي وسعها ولم يُضيّق.

aXA6IDIxMy4xNjUuMjQ3LjkzIA== جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى