كيف فاقمت “المعلومات المضللة” الاضطرابات في بريطانيا؟ ‹ جريدة الوطن
سلطت الاضطرابات العنيفة التي شهدتها بريطانيا منذ أواخر يوليو 2024، الضوء على التأثيرات السلبية الواسعة التي يمكن أن تسببها “المعلومات المضللة”؛ إذ اندلعت تظاهرات، تحولت إلى أعمال عنف، في مدن وبلدات في مختلف أنحاء بريطانيا عقب انتشار معلومات مضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، تزعم تورط مهاجر مسلم في مقتل ثلاث فتيات صغيرات في حفل رقص في مدينة ساوثبورت بمقاطعة ميرسيسايد يوم 29 يوليو الماضي.
وجاءت هذه الاحتجاجات بالرغم من أن الشرطة البريطانية ألقت القبض على المشتبه به في حادث القتل، وهو شخص يُدعى أكسل موغانوا روداكوبانا، يبلغ من العمر 17 عاماً، من مواليد مدينة كارديف عاصمة ويلز لأبوين روانديين، ووجهت له تهمة القتل ومحاولة القتل. واستمرت أعمال الشغب في بريطانيا لأكثر من أسبوع، غذتها بالأساس جماعات اليمين المتطرف؛ وهو ما يلقي الضوء على الدور الذي يمكن أن يؤديه المحتوى المضلل على شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية في إثارة الاضطرابات السياسية والاجتماعية.
انتشار المعلومات المضللة:
بدايةً، من المهم التأكيد أن ثمة اختلافاً بين مصطلحي “المعلومات المضللة” (Misinformation) و”الأخبار الزائفة” (Fake news)، إذ إن الأولى هي معلومات خاطئة ينشرها الأشخاص على اعتقاد أنها صحيحة ولكن من دون وجود نية خبيثة وراءها. وهذه المعلومات الخاطئة قد تكون نتيجة لسوء فهم، أو تحريف غير مقصود للحقائق، أو نشر معلومات دون التحقق من صحتها من مصادر موثوقة. فعلى سبيل المثال، قد يحدث أن يُترجم تقرير علمي بشكل غير صحيح؛ مما يؤدي إلى نشر معلومة خاطئة حول نتيجة معينة تحدث سوء فهم بين الجمهور رغم عدم وجود نية للتضليل.
بينما تشير الأخبار الزائفة إلى محتوى تم إنشاؤه عمداً بقصد التضليل، وغالباً ما يكون الهدف منه التأثير في السلوك أو تغيير اتجاهات الرأي العام نحو قضية معينة من خلال تقديم معلومات خاطئة على أنها صحيحة. فعلى سبيل المثال، قد يتم تنظيم حملة موجهة لترويج أخبار كاذبة حول منتج جديد أو شخصية معينة؛ بهدف التلاعب بالرأي العام وتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.
وغالباً ما ترتبط الأخبار الزائفة بشكل وثيق بالسياسة، بينما تُعد المعلومات المضللة أعم وأشمل؛ إذ إنها تشير إلى مجموعة متنوعة من المعلومات الخاطئة التي تغطي موضوعات واسعة مثل: الصحة والبيئة والاقتصاد والاجتماع عبر جميع المنصات.
ويعزز الاستخدام الواسع لشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي انتشار المعلومات المضللة، فغالباً ما يتم إطلاق هذه المعلومات عبر المنصات الإلكترونية قبل أن تتناقلها وسائل الإعلام التقليدية ونشرات الأخبار. وأسهم الذكاء الاصطناعي في تسهيل نشر المعلومات المضللة على نطاق واسع إلى الآلاف إن لم يكن الملايين من الأشخاص في وقت واحد. فخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُخصص المحتوى وفقاً لتفضيلات المستخدمين، تجعل أي تفاعل، حتى ولو كان سلبياً، يساعد المحتوى -بغض النظر عن دقته- على الوصول إلى عدد أكبر من المستخدمين؛ لأن الخوارزمية تفهم فقط ما إذا كان الشيء شائعاً أم لا؛ ما يعزل المستخدمين عن رؤى ووجهات نظر متعددة يمكن أن تساعدهم على التحقق من صحة المعلومات والأخبار المتداولة.
حالة بريطانيا:
شهدت مدينة ساوثبورت في بريطانيا، يوم 29 يوليو الماضي، حادثاً مأساوياً، إذ أسفر هجوم بسكين على درس رقص للأطفال عن مقتل ثلاث فتيات صغيرات، تتراوح أعمارهن بين 6 و9 سنوات، إضافة إلى إصابة ثمانية أطفال آخرين واثنين من البالغين بجروح خطرة. وألقت الشرطة القبض على المشتبه به، بتهمتي القتل والشروع في القتل، قائلة إنه يبلغ من العمر 17 عاماً، ولم تعتبر الهجوم جريمة إرهابية، وذلك دون تقديم تفاصيل في البداية عن المشتبه به لأنه أقل من 18 سنة، ولا يمكن الكشف عن هويته بموجب القانون.
ولكن بعد الحادث، انتشرت معلومات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول أن المشتبه به مهاجر مسلم غير مصرح له بالإقامة في بريطانيا، وهي المعلومة التي تلقفتها جماعات اليمين المتطرف لتأجيج الاحتجاجات ضد الحكومة، وإثارة مشاعر الكراهية ضد المهاجرين؛ مستغلة غياب معلومات تفصيلية عن المشتبه به. ففي اليوم التالي لحادث الطعن، نظم أنصار اليمين المتطرف احتجاجات مناهضة للمسلمين في ساوثبورت وحاولوا مهاجمة مسجد البلدة.
وأدت خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في انتشار هذه المعلومات المضللة على نطاق واسع في بريطانيا؛ ما أدى إلى اتساع نطاق الاحتجاجات وامتدادها إلى مدن أخرى في كافة أنحاء البلاد، مثل: هال وليفربول وبريستول ومانشستر وستوك أون ترينت وبلاكبول وبلفاست، وبما في ذلك العاصمة لندن. وتخللت هذه الاحتجاجات أعمال عنف مثل: إضرام النيران في المركبات، والاشتباك مع قوات الشرطة، وتخريب الممتلكات بما فيها المساجد وأماكن الإقامة لطالبي اللجوء.
وفي ظل انتشار المعلومات المضللة حول هوية المتهم وتحميل اليمين المتطرف سياسات الحكومة بشأن الهجرة مسؤولية الحادث؛ ومن ثم استمرار الاحتجاجات لقرابة أسبوع؛ رفعت المحكمة شرط عدم الكشف عن هوية المشتبه به بسبب صغر سنه، وأعلنت أنه يُدعى أكسل موغانوا روداكوبانا، وهو من مواليد كارديف لأبوين روانديين، وذلك في محاولة للتغلب على السردية الخاطئة المنتشرة حول الحادث.
إجراءات حكومية:
اتخذت الحكومة البريطانية مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تعزيز دقة المعلومات التي يتم تداولها وحماية المجتمع من التأثيرات السلبية للمعلومات المضللة. فقد شرعت السلطات في تحقيق شامل لتتبع مصدر المعلومات المضللة التي أسهمت في تأجيج الاضطرابات الأخيرة في البلاد، وشملت التحقيقات دور وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك وسائل الإعلام التقليدية في نشر وتضخيم المعلومات غير الدقيقة؛ ومن ثم تغذية الاضطرابات العنيفة، دون التحقق من هذه المعلومات ومعالجتها.
وأدان رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، بشدة العنف الذي نجم عن المعلومات المضللة، وأعلن عن نية حكومته تقديم تشريعات جديدة تهدف إلى تحسين الشفافية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز مساءلة الشركات التقنية بشأن محتوى المعلومات. وتشمل هذه التشريعات فرض غرامات على الشركات التي تفشل في إزالة المعلومات المضللة بسرعة.
علاوة على ذلك، تتعاون الحكومة البريطانية مع شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل: فيسبوك وإكس وجوجل، لتطوير أدوات وتقنيات جديدة لمراقبة وتحديد المعلومات غير الصحيحة بسرعة أكبر. وأطلقت وزارة الثقافة والإعلام حملات توعية تهدف إلى تعليم الجمهور كيفية التحقق من صحة المعلومات، والتعرف على المعلومات المضللة والأخبار الزائفة.
أزمات سابقة:
ما حدث في المملكة المتحدة بسبب انتشار المعلومات المضللة ليس حالة فريدة من نوعها، فهناك سلسلة طويلة من الحوادث والأزمات التي تفاقمت بسبب انتشار معلومات مضللة حول ظواهر طبيعية وأزمات صحية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الزلزال الذي ضرب بقوة مقاطعة سوريجاو ديل سور الفلبينية، في ديسمبر 2023؛ مما أدى إلى أضرار كبيرة في البنية التحتية والمنازل؛ لتنتشر بعدها معلومات مضللة غير مستندة إلى أدلة علمية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي تحذر من تسونامي ضخم وشيك. وتم تدعيم هذه المعلومات بمنشورات، تحتوي على صور ومقاطع فيديو معدلة ومفبركة، تزعم أن الزلزال قد أثار سلسلة من الانفجارات البركانية تحت الماء؛ مما سيؤدي إلى فيضانات ساحلية كارثية.
وأظهر تحليل بيانات وسائل التواصل الاجتماعي أن تحذيرات التسونامي تلك المستندة لمعلومات مضللة، تمت مشاركتها أكثر من 150 ألف مرة خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى؛ مما أثار حالة من الذعر والارتباك العام وفاقم تداعيات الزلزال. وقام العديد من الفلبينيين، الذين كانوا بالفعل في حالة من القلق بسبب الزلزال، بإخلاء منازلهم بسرعة؛ مما أدى إلى مشاهد فوضوية؛ إذ هرب السكان إلى مناطق مرتفعة. ولم يؤد هذا الذعر المنتشر فقط إلى تعطيل سير الأنشطة اليومية، بل فرض أيضاً عبئاً إضافياً على فرق الطوارئ، التي كانت مشغولة بالفعل بتقييم الأضرار التي خلفها الزلزال، وعرقلت الفوضى والخوف الناتج عن تحذيرات التسونامي، عملها؛ إذ تم تحويل الموارد لإدارة تداعيات المعلومات المضللة.
وفي مثال آخر، سلطت جائحة “كورونا” الضوء على كيف يمكن أن تؤدي المعلومات المضللة إلى تفاقم الأزمات الصحية العالمية. فقد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى نطاق واسع، معلومات مضللة حول هذا الفيروس وأصوله وعلاجاته، وغالباً ما تفوقت على المعلومات الدقيقة المقدمة من السلطات الصحية؛ مما أدى إلى حالة من الارتباك العام والمقاومة للتدابير الصحية المتخذة في كثير من الدول.
وكان لانتشار المعلومات المضللة أثناء الجائحة عواقب وخيمة، فقد أدت مثل هذه المعلومات غير المستندة إلى أدلة علمية عن العلاج إلى سلوكيات خطرة وأحياناً إلى وفيات. كما أسهمت المعلومات المضللة حول اللقاحات في زيادة التردد بشأن الحصول عليها ومقاومة ذلك؛ مما أعاق الجهود الرامية لتحقيق “مناعة القطيع”. كذلك أدت نظريات المؤامرة التي ربطت بين تقنية الجيل الخامس و”كورونا” إلى وقوع هجمات حرق عمد على أبراج الهاتف المحمول في المملكة المتحدة.
في المُجمل، أعادت الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها المملكة المتحدة خلال الأسبوعين الماضيين، تسليط الضوء من جديد على العواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدثها المعلومات المضللة؛ وهو ما يتطلب نهجاً شاملاً ومتكاملاً لمواجهتها؛ بحيث يشمل تحسين تقنيات الكشف عن ذلك المحتوى، وتعزيز شفافية الخوارزميات المستخدمة على منصات التواصل الاجتماعي لتحديد الأولويات ونشر المعلومات الصحيحة، وبذل مزيد من الجهود لمحو “الأمية الإعلامية” بين الأفراد ليصبحوا أكثر قدرة على تقييم المعلومات بدقة، بالإضافة إلى فرض قوانين صارمة تضمن المساءلة للمنصات الرقمية، وتعزز نشر المعلومات الدقيقة.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”