مكان لا يشبهني
الجمعة 29/ديسمبر/2023 – 02:00 م
من حوالي 100 سنة ولما كان الشاب الأمريكي والاس جونسون في نص العشرينات من عمره كان عايش مع زوجته وحياتهم تمام التمام.. الشابين اللُطاف اللي اتجوزوا بعد قصة حب قصيرة كانوا مثالا حي على قصة عظيمة كملت بسبب شجاعة طرفيها.
والاس بيشتغل نجار.. كان نجار شاطر مفيش منه إتنين.. وصل لدرجة من المهارة إن اللي يشوف الترابيزة أو الكرسي أو السرير اللي عاملهم “والاس” يقول وهو مغمض إنهم بتوعه.. شغله بقى بصمته.. تميزه في شغله كان سبب في كبر حجم شغل الورشة اللي بيشتغل فيها وثقة الناس فيها.. طبيعي وبالمعايير الإنسانية العادية إن كل ما نجحت أكتر كل ما كان ليك أعداء أكتر المخفيين منهم ورا ضهرك أكتر من اللي ظاهرين قدام عينيك..
بس والاس ماكنش شاغل نفسه بالنقطة دي ومش مركز غير في شغله فقط لا غير.. لكن الشيء الغريب إنه في بداية كل سنة كان له دعوة ثابتة ومحددة وغريبة بالنسبة لمسامع لمراته!.. كان بيقول “لا أتمنى الاستمرار في وضع لا يشبهني”.. طبعًا تفسير جملة “وضع لا يشبهني” دي كانت ترجمتها عند مراته إنه مش مرتاح معاها وعايز يشوف واحدة غيرها!.. لكن الحقيقة إن لأ..
الراجل وزى ما مكتوب في المقالات والكتب اللي تناولت سيرته الذاتية بعد كده وزى ما هو نفسه قال لها لما هي صارحته بزعلها من الدعوة دي رد وفسر وقال إن دي دعوة أو أمنية هو ورثها عن جدته اللي كانت بتقول على طول إنها تتمنى من ربنا مايخليهاش في مكان مش شبهها، ولا مع شخص مش شبهها، ولا في وضع مش شبهها.. كان رد مراته عليه إن ما أنت بتقول أهو “ولا مع شخص” يعني تقصدني أنا!.. يا ست الناس ولا أقصدك ولا أقصد غيرك دي مجرد دعوة عادية برددها وأنا مش في بالي أصلًا.. ماشي يا عم “والاس”.
تمر الأيام والسنين ويزيد صيت “والاس” أكتر وتزيد معاه حجم معاملات الورشة اللي بيشتغل فيها لدرجة إن بقى فيه ناس بييجوا من ولايات تانية عشان ياخدوا منها شغل.. لحد هنا عظيم.. وصل “والاس” لسن الـ 40 بالتمام والكمال وخبرة في الورشة وصلت لـ 17 سنة من الشخص المخلص المحترم.. لحد في أيام شبه الأيام اللي إحنا فيها دلوقتي دي يعني قبل راس السنة بـ يومين بالظبط.. دعى نفس الدعوة بتاعته.. “يا رب لا أتمنى الاستمرار في وضع لا يشبهني”.
قالها بشكل اعتيادي وهو مبسوط في شغله مفيش حاجة مضايقاه بس واضح إن باب السما كان مفتوح في اللحظة دي بالذات.. عشان بعد نهاية احتفالات راس السنة وقبل ما ييجي يوم 10 يناير كانت الورشة بلغته إنه مفصول!.. يا نهار منيل!.. مفصول!.. ليه؟.. إيه اللي عملته؟.. أهو هو كده وخلاص.. المدير متضايق منك.. ليه؟.. أنا عملت إيه يضايقه.. شغلي مظبوط، ومواعيدي مظبوطة، ومفيش ولا مخالفة واحدة عليا من وقت ما اشتغلت في الورشة.. مفيش ولا رد مقنع اتقال له.. مفصول يعني مفصول كده خبط لزق.
طبعًا الفضول كان عامل معاه عمايله وفضل يسأل يمين وشمال عشان يفهم إيه اللي غير قلب المدير من ناحيته لحد ما عرف إن فيه شخص خبيث أقنع المدير إن “والاس” خلاص بقى في الأربعينات ومفيش منه رجا ومش هيقدر يقدم جودة شغل بالشكل المطلوب بسبب عوامل السن وإن لازم ناس شباب في العشرينات هما اللي يعملوا أساسيات شغل الورشة.. أيوا بس أنا لسه أقدر أشتغل.. تمام بس هي وجهة نظرهم هما، أما بالنسبة لوجهة نظرك فعفوًا يعني بلها وإشرب مايتها.
المشكلة إن ده مصدر دخل “والاس” الوحيد ومشاينه من الورشة معناه التفليس والبطالة.. لما روح البيت واتكلم مع مراته وحكالها الست اتصدمت وحست بقهرة كبيرة هي كمان وبعدها سألته هنعمل إيه يا “والاس”.. الراجل بعد فترة تفكير بسيطة وبعد ما زوبعة التفكير بقت أقل قال لها أكيد اللي حصل خير.. مش أنا دايمًا بدعي حتى وأنا مش قاصد إن ربنا يمشيني من أى مكان مش شبهي.. ما يمكن الورشة اللي خدت مني عمري دي مابقتش شبهي خلاص.. طب والعمل؟.. قال لها أنا هرهن البيت اللي إحنا ساكنين فيه.
مراته الست الأصيلة الوفية بدون ما تسأله عن السبب أو اللي في باله وافقته.. فعلًا رهن البيت اللي عاش فيه أحلى سنين جوازه هو ومراته وأخدوا الفلوس أجروا بيت تاني أصغر بكتير وبباقي الفلوس اشترى كمية ضخمة من الخشب وصمم ونفذ بيتين خشب متنقلين!.. أيوا بالظبط كده.. عمل بيتين خشب متنقلين لأول مرة في العالم يسهل فكهم وتركيبهم بمنتهى اليُسر.. خلي بالك إننا بنتكلم عن فترة أوائل الأربعينات يعني كان الموضوع طفرة في وقتها.. الحقيقة إنه طفرة لحد دلوقتي برضه.
المهم باع البيتين بسرعة وهوا عشان الفكرة كانت مذهلة.. فيه ناس طلبت منه بيوت تانية.. وبيوت تالتة.. وهكذا.. فضل النجار الشاطر المحترم المميز يعمل بيوت خشبية متطورة بأسعار بسيطة جدًا وفي وقت قياسي.. 5 سنين بس هي المدة اللي كان محتاجها “والاس جونسون” عشان يبقى اسمه أهم اسم في عالم المقاولات الأمريكية وبعدها صاحب مجموعة سلاسل فنادق “هوليداي إن” اللي موجودة في كل مكان في العالم لغاية دلوقتي.. يعني من نجار في ورشة لغاية مالك سلسلة فنادق.. والسبب؟.. دعوة بسيطة إن ربنا يبعده عن أي مكان، أو شخص، أو وضع مش شبهه.
بيقول “والاس” في مذكراته: (لو علمت الآن أين يقيم رئيس العمل الذي طردني، لتقدمت إليه بالشكر العميق لأجل ما صنعه لي، فعندما حدث هذا الموقف الصعب تألمت جدًّا، ولم أفهم لماذا سمح الله بذلك، أما الآن فقد فهمت أن الله شاء أن يغلق في وجهي بابًا، ليفتح أمامي طريقًا أفضل لي ولأسرتي).
• الحياة بتبقى أبسط، ومرورنا فيها بيبقى أمتع لما بنكون مع ناس شبهنا في أماكن فيها من روحنا، وبعد تحقيق خطوات مهمة حلمنا بيها والقدر ساعدنا على تحقيقها.. عشان كده ربنا يبعدنا عن الاستمرار في أي وضع مش شبهنا، وأي مكان مش شبهنا، وأي ناس مش شبهنا.. محتاجين اللي يكمل حياتنا ويجملها مش اللي يكون عبء ويزودها فوق تُقلها تُقل ومشقة.