«حروب الإسكالوب».. هل تتحول مصايد الأسماك لساحات نزاع عالمية؟
في عالم موارده نادرة، بالتعريف الاقتصادي، تفضل الدول التنافس على الفوز بهذه الموارد بدلاً من بحث سبل تشاركها وتوزيعها بشكل عادل.
اليوم، كل ما على الأرض مما ملكه الإنسان وتحكم فيه هو موضع صراع لم يسلم من تنافس البشر. وبينما أفلت “الهواء”، لم تفلت الأرض والماء من مصير التجاذب، والذي قد يصل الى الصراعات والحروب بين وقت وآخر.
ووصلت الحروب إلى الأسماك. وفي حين تبدو النزاعات حول مصايد الأسماك غير هامة، بالنظر إلى الحروب الفتاكة الجارية في أوكرانيا والشرق الأوسط والمحتملة في مناطق مثل تايوان، لكن هذه النزاعات لديها القدرة على التصاعد إلى صراعات أكبر وتفاقم النزاعات القائمة، تمامًا كما حدث مع النزاعات حول النفط والمياه والحبوب في الماضي.
معارك دولية
وعلى سبيل المثال، في عام 2012، اشتبك صيادو الإسكالوب (المحار) البريطانيون والفرنسيون في سلسلة من المواجهات العنيفة التي أطلق عليها الإعلام “حرب الإسكالوب الكبرى”. لكن هذه المواجهات لم تتعد الاصطدام بالقوارب ورمي الصخور. لكن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فعلياً في عام 2020، أخذ الصدام منحى آخر. وقررت لندن منع معظم الصيادين الفرنسيين من العمل في المياه الإقليمية البريطانية. وبعد الحظر الذي قالت بريطانيا إنه لحماية البيئات البحرية الهشة، احتجت الحكومة الفرنسية بشدة وهددت بالانتقام عبر تدابير تجارية عقابية.
كما حدثت اشتباكات مماثلة في أجزاء أخرى من العالم أيضًا. ففي عام 2022 عندما اقتربت سفينة خفر السواحل الأمريكية من سفينة صيد الحبار الصينية بالقرب من الإكوادور لإجراء تفتيش، استخدمت السفينة الصينية مناورات عدوانية لتجنب الصعود على متنها، وفر العشرات من السفن الأخرى دون أن تخضع للتفتيش.
لكن معارك الأسماك ليست جديدة، فخلال الحرب الباردة، كانت البلدان المتحالفة تتصادم هي نفسها مع بعضها بشكل متكرر حول مصايد الأسماك. وفي عام 1979 استولت كندا على قوارب صيد أمريكية في نزاع حول سمك التونة الأبيض، وشهدت حروب القد في السبعينيات اشتباك أيسلندا والمملكة المتحدة حول حقوق الصيد في شمال الأطلسي. لكن وتيرة المواجهات بشأن موارد مصايد الأسماك زادت عشرين ضعفًا منذ عام 1970، وزاد النمو السريع لأساطيل الصيد التي تستطيع السفر إلى المياه البعيدة من خطر الاشتباكات الجدية.
ومن أبرز الأمثلة الأخرى خلال تلك الفترة كانت حروب سمك القد. وهي الحروب التي جَرت بسبب التنافس على المياه الإقليمية بين بريطانيا وأيسلندا. وتحول هذا الصراع إلى سلسلة من المواجهات المحتدمة بين الدولتين شمال المحيط الأطلسي وانتهت لصالح أيسلندا التى حصلت على حق الصيد في المياه الإقليمية.
وتضمن الاتفاق تنازل بريطانيا عن 200 ميل بحري (370 كيلومترا) وذلك بعد تهديدات أيسلندا بالانسحاب من حلف شمال الأطلنطي بما سيحد من وصول الحلف إلى معظم “فجوة جيوك” التي تمثل نقطة مهمة جداً ضد الغواصات الروسية إبان الحرب الباردة. وأذعن مجتمع الصيد البريطاني وفقد الوصول للثروة السمكية في الأماكن الغنية من المحيط الأطلسي وبالتالي فقد الآلاف من الوظائف. أصبحت المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تبلغ مساحتها 200 ميل بحري (370 كيلومتراً) معيارا حقيقيا للأمم المتحدة.
آلية عالمية
ووفقاً لتقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز”، فإن مصايد الأسماك هي موارد طبيعية محدودة توفر الغذاء لمليارات الأشخاص؛ إذ تشكل المأكولات البحرية ما يقرب من خُمس استهلاك البروتين الحيواني العالمي. وتُعد منتجات مصايد الأسماك من بين السلع الغذائية الأكثر تداولًا في العالم. ويوظف قطاع مصايد الأسماك مئات الملايين من الأشخاص ويدعم اقتصادات العديد من البلدان النامية والدول الجزرية الصغيرة.
وإلى جانب محدوديته، يواجه القطاع ضغوطًا متزايدة بسبب الصيد الجائر وسوء الإدارة وتغير المناخ، مما يهدد مخزون الأسماك على مستوى العالم. ويُتوقع أن تدفع درجات حرارة المحيطات المرتفعة وحدها ما يقرب من ربع مجموعات الأسماك المحلية إلى عبور الحدود الدولية في العقد القادم، مما يعيد توزيع الوصول إلى هذا المورد الحيوي ويشجع على الصيد غير القانوني المحفوف بالمخاطر وانتهاكات العمل في القطاع. في هذا السياق، فإن الموضوع مرشح للتصعيد والتحول لمعارك على الأسماك.
ومع ذلك، من الممكن تجنب تصاعد الصراعات حول الوصول إلى هذا المورد الذي يزداد ندرة. فعندما تتوفر البيانات والموارد الكافية، يعرف العلماء كيفية إعادة بناء المخزون وإدارة مصايد الأسماك بشكل مستدام، وتتحسن قدرتهم على التنبؤ بتأثيرات الضغوط البيئية الجديدة على مجموعات الأسماك بسرعة. وعندما يتعلق الأمر بتمويل هذا العمل وتطبيق نتائجه على الحوكمة، فبعض البلدان تعاني. لكن مع المؤسسات القوية، وبرامج الحفظ، والمعلومات المواتية للتطورات، يمكن للهيئات الوطنية والدولية لمصايد الأسماك جعل مناطق الصيد مناطق سلام بدلاً من مصادر نزاع.
ولكن لا توجد آلية عالمية لحل النزاعات. الوسيلة الرئيسية للحكم المتعدد الأطراف لمصايد الأسماك هي اتفاقية الأمم المتحدة لمخزون الأسماك، التي أنشأت الأدوات القانونية والآليات التي تستخدمها الآن مجموعة متداخلة من منظمات إدارة مصايد الأسماك الإقليمية (RFMOs). لكن هذه الهيئات تعالج فقط القضايا التي وافق أعضاؤها المؤسسون على معالجتها، وليست كل النزاعات السمكية تحت اختصاصها. وأحرزت الجهود المحلية تقدمًا في بعض الحالات، مثل التدابير الإدارية التعاونية التي نفذتها 8 دول جزرية في المحيط الهادئ بموجب اتفاقية نيرو.
مصادر اقتصادية مستدامة
وتعاني الحكومات من التعامل مع مصايد الأسماك كمصادر اقتصادية أو بيئية، متجاهلة إمكانياتها كمواقع نزاع. ويعتبر الوصول إلى مصايد الأسماك غالبًا لعبة محصلتها صفر، رغم وجود فرص للدبلوماسية. وبينما لم يتم استكشاف معظم محيطات العالم، فإن التمويل العالمي للأبحاث البحرية ضئيل، وتقلصت الاستثمارات الحكومية لعقود.
وتتفاقم النزاعات في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي وخليج غينيا بسبب الصيد غير القانوني وسوء إدارة الموارد. وهناك حاجة لسياسات تقلل من خطر النزاع وتعزز إدارة مستدامة للمصايد. كما يجب على الحكومات تخصيص موارد أكبر لمكافحة الصيد غير القانوني، واعتماد ممارسات تستجيب لتغير المناخ، وتوسيع دور المجتمع المدني.
وفي هذا الصدد، فإن التعاون الدولي ضروري لتعزيز الحوار البناء ومنع تصاعد النزاعات. وبينما تعتمد صحة المحيطات، والإنسان، والسلام على إدارة مستدامة لمصايد الأسماك، يستدعي ذلك سياسات تعترف بالقيمة الحقيقية لمخزونات الأسماك كموارد نادرة وغير متوقعة، وتعمل على منع النزاعات المحتملة والتخفيف من آثار تغير المناخ.
aXA6IDJhMDI6NDc4MDphOjE0NTE6MDoxN2IzOjljNmY6MiA= جزيرة ام اند امز