عندما تغيب العقول وتسود الخرافات
مع اقتراب العام الجديد تتزايد الرغبات، وتتعاظم الطموحات والأحلام في سنة جديدة، تكون عامرة بالإنجازات والمسرات، وتهفو القلوب إلى تحسُّن الأوضاع، وتحقيق الأمنيات التي لم تتحقق في العام المنتهي. وهذه سُنة الحياة على قول الشاعر “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل).
كل هذه التطلعات مشروعة وطبيعية ومرغوبة.. فالإنسان الذي لا طموح له هو في الحقيقة ميت وإن كان يمشي بين الأحياء؛ لأنه يكون قد استسلم لليأس، وسلّم نفسه للفشل والضياع، لكن الأمر غير الطبيعي هو تزايُد اللهث وراء ما ينشره بعض العرافين الذين يدَّعون القدرة على التنبؤ بالمستقبل وكشف الحجب اعتمادًا على تتبُّع حركة الكواكب والنجوم، إلى غير ذلك من الخزعبلات والخرافات التي ما زالت تعشش في أذهان الكثيرين، وتسيطر على عقولهم.
ربما يرى البعض في كلامي نوعًا من المبالغة والتهويل، لكن هناك زيادة واضحة في أعداد الباحثين على محركات البحث الإلكترونية خلال هذه الفترة من كل عام عن تنبؤات العرافين والأبراج.
ومن المعلوم بالضرورة أن ديننا الحنيف ينهانا بشدة عن ذلك، وهناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تحرمه. ومن أبسط بديهيات الإسلام التسليم بأن علم الغيب هو من الأمور التي اختص بها الله سبحانه وتعالى نفسه، ولا يستطيع أحد التنبؤ بها أو معرفتها، بل إن من يلجأ لهذه الممارسات السالبة وإن لم يكن عن قناعة قد يدخل في دائرة من قال فيهم نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: “من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة”.
ومن المثير للعجب والاستغراب أنه لا يزال في هذا العصر الذي أصبح فيه العلم سيد الموقف من يؤمن بالخرافات، ويتعلق بالأوهام، ويسير مغمض العينين وراء الدجالين والمشعوذين، ويقتنع بما يقولونه دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في ذلك.
ومن العجيب أيضًا أنه حتى في الدول الغربية المعروفة بتطورها وتقدمها العلمي الكبير هناك من يفعلون الأمر نفسه، ويقتنعون بالشعوذة والدجل.. وقد شاهدنا كثيرًا من المزاعم خلال منافسات كأس العالم بوجود أخطبوط، يستطيع التنبؤ بنتائج المباريات قبل أن تلعب!! للدرجة التي تثير التساؤلات عن السبب الحقيقي وراء محاولات التجهيل وتغييب العقول.
وبالرغم من انتشار هذه التصرفات في بعض الدول العربية الأخرى منذ وقت طويل إلا أننا ظللنا في منطقة الخليج عمومًا بمنأى عنها، ولم توجد ضمن موروثاتنا وعاداتنا وتقاليدنا إلا خلال فترة الجاهلية، لكن في فترة الانفجار الفضائي وظهور الإنترنت بدأ كثيرون في تصديق التنبؤات والبحث عن أقوال العرافين والدجالين.
وربما يكون وراء هذا التوجه الانهزامي انكسار نفسي نتيجة لتوالي الإحباطات وانهيار المعنويات، لكن ذلك ليس مبررًا لاختيار الغيبوبة والانفصام عن الواقع.
ولهؤلاء أقول: دعونا نتعلم من إخفاقاتنا، وأن نسعى لتطوير أنفسنا، وأن نبذل قصارى جهودنا لترقية واقعنا، وبعد ذلك نُسلِّم أمرنا لله، وأن نوقن كامل اليقين بأن ما يختاره لنا سيكون أفضل مما نتمنى، وأن نبتعد عن السير وراء من يريدون منا أن نلغي عقولنا؛ لأنهم لو كان في مقدورهم معرفة الغيب لنفعوا أنفسهم أولاً مصداقًا لقوله تعالى {… وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
دعوات صادقات أرفعها لله تعالى ونحن نستشرف عام 2024 أن يحل السلام في أرجاء العالم كافة، وأن تنعم الإنسانية جميعها بالاستقرار والنماء، وأن يعيد هذه المناسبة علينا أعوامًا مديدة والدول العربية والإسلامية عامة، وبلاد الحرمين الشريفين خاصة، تواصل سيرها في طريق التقدم والنهضة في ظل قيادتها الرشيدة. وكل عام وأنتم بخير.